أن نفكر في أرشيفنا

الكاتب:
حسّان الناصر

مقدمة

يدخل العام ٢٠٢٥ والحرب في السودان تمثل الحدث الأبرز الذي يعيد تشكيل المخيلة الاجتماعية للسودانيين في الداخل ودول الشتات، حدث لجوء كبير وواسع للسودانيين في مختلف دول الجوار ودول العالم مما أتاح لهم الوصول الكبير إلى الإنترنت ومتابعة الأحداث من خلال الاتصال بالعالم الإفتراضي، مما ازاحهم نحو متابعة الأحداث عن بعد وإمكانية البحث في شبكات الاتصال و التواصل.

بالمقابل هناك فراغ واسع وكبير للأرشيف السوداني على الإنترنت مما يجعل هناك حالة من النسيان والضياع يصيب الباحث عن السودان أو حوله وكذلك قضاياه المختلفة والمتعددة بجانب ذلك لم يكن هناك إرشيف فني يمكن الوصول إليه بسهولة وهناك حالة من التشتت والبعثرة التي يدخل فيها مجال الفن البصري والتشكيلي في السودان فلا يوجد " أطلس فني " يمكن الوصول إليه لا من ناحية فنانين أو إنتاج فني أو حتى قضايا ومواضيع.

من الضرورة الإنتباه إلى أن المؤسسات الفنية/البصرية في السودان ليست بالفقيرة أو المعدمة ولكن لم يكن هناك إهتمام واسع وكبير بها أو بمحاولة أرشفتها، مما يصور الواقع والفني والمشتغلين عليها بشكل غير واضح أو مربك، إننا في زا ميوز يقع على عاتقنا أن نقوم بهذا الدور من مبدأ الأفكار والمسؤولية التي تقع علينا كمؤسسة فنية سودانية ذات تقاليد وتنتمي إلى التجربة الفنية السودانية.


أن نفكر في الإرشيف، كيف؟

سؤال عموم في طابعه لكنه مخصص لنا كفاعلين في الإنتاج الفني حول السودان. كيف يمكن أن نؤرشف ما نقوم به من إنتاج بحيث يكون عام للجميع ومتداول بصورة سهلة؟ مع استصحاب مسألة التقنية وطرق العرض البديلة التي يتجه إليها الناس. ربما كان من الصعب التفكير في الإرشيف المفقود خصوصا وأن طبيعة اللحظة التي شكلت السؤال مصحوبة بفقدنا للمقر الرئيسي في الخرطوم ومن ثم انتقالنا إلى مدن مختلفة نحمل " مقرنا " ذاكرة من صور وفيديوهات.

ظهر ان هناك نوع من الأرشفة قمنا به كفعل تلقائي حيث نريد ان نحفظ ذكريات ما صنعناه خلال سنوات العمل في المشهد الفني فبجانب الفعاليات والأشخاص الذين كانوا يظهرون على الصور، كانت هناك الأعمال الفنية والكتابات النقدية بجانب فضائها الفكري الذي تشكل من خلال المداولات.

للمؤسسة أيضا أرشيفها الرسمي الذي يعبر عنها فهو بعيد عن كونه شخصي، حيث انه لا يمثل الذاكرة التي قمنا بتشكيلها كأفراد جزء من صيرورة العمل بالإضافة إلى أن الأرشيف هو جزء من ذاكرة آخرين يعودون له بشكل مستمر في طبيعة العمل الذي قمنا به كانت مسألة المشاركة هو جوهره الأساسي.

ما بين المؤسسة والشخصي يظهر سؤال الأرشفة كموقع من خلاله يمكن أن نفكر في مستوياته المختلفة، فعندما نشاهد المؤسسة والموقع الخاص بهانجد نوع من الأرشفة المتخصصة ولكن فيه شيء من الإرتباط الشخصي بنا، وأيضا في أرشيفنا الخاص نجد أن هناك نوع من التوتر –بمعناه الإيجابي– يقودنا إلى النظر نحو إمكانية صناعة أرشيف فني كهم تشاركي مع مؤسسات أخرى وفي ذات الوقت هم ينبع من الموقف الحالي الذي نمر به في ظل الفقد الكبير للبنية المادية للمحتوى الذي من خلاله نشكل الأرشيف.

 

نفتقد المعمار:

يشير المفكر أشيل أمبيبي إلى أن الأرشيف يستمد جزء من قوته من مسألة المعمار، فيقول: "يستمدُّ الأرشيف مكانته وقوّته من هذا التشابك بين المبنى والوثائق. إذ ليس للأرشيف مكانة أو سُلطة بدون بُعده المعماري، الذي يشمل المساحة المادّيّة لموقع المبنى، الموتيفات والأعمدة، ترتيب الغرف، تنظيم (الملفّات) متاهة الممرّات، مستوىً من الانضباط، الإضاءة الخافتة والتقشُّف الذي يعطي المكان شيئاً من طبيعة المعبد و المقبرة".

بكل تأكيد تمثل مدينة الخرطوم بالنسبة لنا جزء من أرشيف التاريخ الإنساني ففيها تتقاطع التواريخ الشخصية بتاريخها كمدينة أسست وفق نسق إنجليزي مضبوط إلا أنها أعيدت إنتاجها خلال مسيرة الحياة الإجتماعية فيها. بالتفكير فيها كمدينة أسست مرتان (١٨٢٤) ومن ثم (١٩١٠) نرى أنها أرشيفنا الذي نفتقد معماره فلا يمكن أن يكون هناك أرشيف بلا معمار، لذلك يأتي الفقد هنا في صورة المدينة التي خرجنا منها نحملها كذاكرة/صور، لذلك جزء من فكرة الأرشيف مفقودة لذلك كان سؤال التقنية الذي طرحته ريم الجعيلي مهم حيث أننا لن نتمكن من الوصول إلى الخرطوم كفضاء مادي يمكن لنا أن نعمل على صناعة أرشيف مكتمل وهنا نحن لن نؤرشف العمل الفني فقط وإنما السياق الذي أنتج فيه.

الخرطوم التي قمنا بالإشتغال عليها في مشروعين (ضفة آفلة) و(مدن ممتدة)ونحاول أن نقوم بصناعة الثالث خلال هذا العام سيكون من المتعذر الوصول إليها إلا من خلال الموقف الفردي للقاريء/الناظر لها، فهذا الأمر لا يتعلق بالمدينة فقط وإنما أيضا بالذاكرة الإجتماعية للمواطنين لذلك عملية الأرشفة ليست مجردة وتقوم على دوافع رغبوية/ذاتية، لكنها أيضا في عملنا الذي نحاول التفكير هي مرتبطة بالأساس مع الذات والتداعي الذي قمنا به نحو الخرطوم كفضاء مفقود حاليا بالإضافة إلى الضرورة الزمانية للأرشفة، كمسألة تعويضية لنا نعبر بها عن موقع المدينة.

إن كان فقد الخرطوم هو الدافع الأساسي نحو التفكير في الأرشيف فإن مسألة غياب الأرشيف هو الداعي التالي الذي ننتقل إليه في بحثنا عن مراكمة تعريف واضح للعمل والإشتغال الفني السوداني، وقد يكون من المهم النظر إلى مسألة الأرشيف الفني بعيدا عن سياق الأرشفة الرسمية و الإتجاه لما هو شخصي.

 

أن يفكر الفنان في الأرشيف:

في حواره الذي نشر لصالح حوارات جيل الثورة يشير د. محمد عبد الرحمن بوب –مفكر وفنان سوداني- أن حالة غياب الأرشيف الفني في هذه الحالة غريبة وغير مفهومة، فهناك ارشيف الفنانين وأرشيف المعارض، بالإضافة إلى المدارس التي شكلت موجات مختلفة من الفترات الفنية، لكن لم تهتم بأرشيفها. هناك مجموعات كبيرة من الفنانين في السودان لا يوجد لهم اي أرشيف.

هذا الأمر ينطبق على الموجودين في كليات الآداب و العلوم الاجتماعية، فهناك تاريخ شفاهي لم يتم تدوينه، وهذا ما اشار اليه (إيفان بريتشارد) –أنثروبولجي بريطاني– "إن على السودانيين كتابة تاريخهم الشفاهي حتى لا يفقدوه" ولكن لم ينتبه لهذا الامر اي احد .

يقول بوب : " أن التشكيلين هم من خانوا الفن و روحه، لأنهم لم يهتموا بالمؤسسات الفنية، ولقد كانوا أقرب الناس لأن تكون مؤسساتهم اكثر ازدهارا، وهذا لعدد من الأسباب، أولا وظائفهم داخل الدولة كانت كبيرة جدا، و مؤسساتها أيضا والمناسبات التي ترعاها الدولة، كانت هناك فرصة لأن يكون للتشكيليين أدوار داخل الدولة، ففي مصر توجد هذه التقاليد. وأنا أعتقد أن لدينا مشكلة في طبيعة البنية الحديثة للسودان كدولة وكمجتمع".

يضع بوب المسؤولية على عاتق الفنان ولكننا أيضا نرى أن واقع الفنان التشكيلي والتفكير من داخل شروطه ربما تضع العذر له في هذا الجانب لذلك من المهم أيضا تناول الشرط المادي الذي يحكم عمل الفنان فلا يوجد أي مؤسسات يمكنها أن تقدم تمويل من أجل إقامة الأرشيف الخاص بهم.

قد يكون من المهم أيضاً النظر إلى تجربة الأرشيف كتقليد في السودان، حيث يغيب عن الفن السوداني بعده المرتبط بمسألة الأرشفة، نشاهد العديد من الأشخاص الذين يقومون ببناء نسق فني ويتركون إرث كبير إلا أن بعد الأرشيف مفقود حيث لا يوجد أي مرجعية يمكن العودة لها للنظر إلى أعمالهم أو معرفة الطبيعة التشكيلية لحقب زمنية معينة.

قد يكون غياب الأرشيف عن الدولة مؤثر ولكن يجب أيضاً النظر إلى مسألة الأرشفة الشخصية، بجانب غيابها عن المؤسسات الفنية أيضاً.

تصفح مقالات اخرى
حسّان الناصر

ابحث عن فنانين، أعمال فنية، أو كتب

  1. Under this agreement, I hereby grant permission to the Sudan Art Archive to utilize the information provided about me and my works for the purpose of documenting the history of Sudanese art. The Muse Multi Studios will retain this information and share it as part of its artistic archive online and in relevant publications.
  2. I acknowledge that The Muse Multi Studios and the Sudan Art Archive may include information about me and my artworks from online platforms as part of their digital archive. I hereby express my consent to The Muse Multi Studios to utilize publicly available information from the internet for this purpose.
  3. I affirm that I will not hold The Muse multi studios or the Sudan Art Archive accountable for any claims or disputes arising from the ownership or accuracy of the provided information.