قرن من الفنون البصرية الحديثة في السودان (١٩٢٠ - ٢٠٢٠)

الكاتب:
د. محمد عبدالرحمن حسن

الممارسات الفنية والجذور التاريخية

مُورست الفنون البصريّة، أو التشكيليّة، في السودان منذ آلاف السنين. و حينما تُضاف كلمة (حديث) إلى عبارة "فن تشكيلي" فيُقصد ذلك الفن الذي بدأ يُمارَس في السودان بعد الغزو الإنجليزي في سنة 1898م. غير ان هذا الوصف ليس دقيقاً ويحتاج إلى مراجعة وتصويب، لأنه وُجدت ممارسة تشكيلية في السودان لا تختلف كثيراً عن الفنون التي جاءت مع المؤسسات التعليمية التي أسَّـسها المستعمِرون. فمنذ العصور القديمة في السودان، والتي سادت فيها ممالك نبتة وكرمة ومروي، ظل الفن جزءاً من حياة الطبقات الحاكمة والشعبية، واستمر ذلك حتى دول النوبة المسيحية في العصور الوسطى (علوة والمقرة ونوباتيا)، فقد كانت لهم فنونهم التي تصور قصص الإنجيل والشهداء والشخصيات المقدسة.

ومورس الفن في السودان في فضاءات المنازل وتزيين جدرانها الخارجية، وفي نسج وتلوين السعف في الشمالية، وتزيين الأجساد والوجوه في جبال النوبة، وزخرفة الجلود والأواني في غرب السودان، ونسج وتزيين الخيام في الشرق. ولدى الفئات المتعلمة في مناطق السودان المختلفة كان فن الخط العربي سائداً بجانب تزيين وتغليف المخطوطات والرسم عليها، بجانب صناعة الاثاث والأزياء.

استمرت هذه الفنون إلى أن غزا الأتراك السودان في سنة 1821 ثم تحرّر السودان منهم في سنة 1885، ثم غزا الإنجليز السودان في سنة 1898 وأدخلوا الفن الأكاديمي الذي يمارسه متخصصون لا يتصلون بالثقافة التي ينتجها المجتمع عبر حركته الذاتية، ومن هنا ورثت الفنون الحديثة مشكلات ضعف التلقي والتعبير عن الواقع الحي.

الفنون البصرية الحديثة المحلِّيـَّة ( ١٩٢٠ - ١٩٤٠ )

في عشرينيات القرن العشرين كان رسم المشاهد الطبيعية مألوفاً في المقاهي والمطاعم، كما مورس في الاحتفالات والأعياد، خاصة في ساحات المولد النبوي الشريف حيث كانت صور الشيوخ ورجال الدين تزين المواضع التي يتجمع فيها أتباعهم. وظهرت العناية برسم الشخصيات الاجتماعية في المنازل، وشجع على ذلك ظهور الصحف والمجلات الأجنبية المصورة. وعُرِف عدد من الفنانين بممارسة هذا النوع من الرسم.

بين ثلاثينيَّات وأربعينيَّات القرن العشري كان الفنان علي عثمان يمارس الرسم والنحت في مدينة الخندق بالولاية الشمالية، ثم انتقل إلى الخرطوم وعمل مصمِّماً بوزارة الصحة ووجد فنه اهتماماً من الجمهور وزينت لوحاته جدران الأماكن العامة، خاصة المطاعم والمقاهي وبعض المحلات التجارية في مدن العاصمة الثلاثة، أمدرمان والخرطوم وبحري. وظهر أيضاً الرسام موسى كزام، الشهير باسم (حجا)، وكان بارعاً في رسم وجوه الشخصيات العامة، مثل الزعماء السياسيين وشيوخ الطرق الصوفية، كما رسم وجوه النساء الجميلات اللائي يظهرن بالزينة التقليدية و(المشاط) ويرتدين الفدو والزُمام. ومن بين الفنانين الذين اشتهروا خارج الخرطوم أحمد سالم وأبو الحسن مدني، وكليهما كان يرسم جسم الإنسان والمشاهد التي تصور حياة الريف والطبيعة بأشجارها وأنهارها وحيواناتها.

زينت لوحات هؤلاء الفنانين المقاهي التي يجتمع فيها الموظفون والعمال في فترات الظهر والمساء وعبرت أعمالهم عن ثقافة المدن التي تجمع بين أهل المناطق المختلفة، وذوق الطبقة الوسطى من الموظفين والكَتَبَة. كما زيّنت أعمالهم أيضاً مغلَّقات بعض المنتجات الصناعية مثل الحلويات والعطور.

نشأة الفن الأكاديمي في السودان (١٩٤٠ - ١٩٥٠)

في منتصف الثلاثينيات بدأ تدريس مادة الفنون بطريقة رسمية في شعبة اعداد المناهج وتدريب المعلمين المعروفة باسم "بخت الرضا" في وزارة التربية التي كان اسمها في ذلك الوقت "وزارة المعارف" وكان الهدف تعليم مدرسي المرحلة الأوليَّة (وهي السنوات الأربع الأولى في المدرسة) أساسيات تدريس مادة الفنون. بعدها تأسست مدرسة الفنون والتصميم والتي ألحِقت فيما بعد إلى معهد الخرطوم الفني (Khartoum Polytechnique) وسُمِّيت كلية الفنون الجميلة والتطبيقية.

وبعد استقلال السودان في العام ١٩٥٦، سعى المثقفون والأدباء والفنانون لاثبات وجود ذاتية سودانية لها ثقافتها وتاريخها المستقل عن البلاد المحيطة بها. وفي هذه الفترة حاول عدد من الفنانين والأدباء التعبير عن ذلك المكون في قوالب الفنون الحديثة. في المسرح قدّم خالد ابو الروس عدة مسرحيات عن تاريخ السودان مستفيدا من التراث الشفاهي، وطور الموسيقيون والمغنون نوعاً من الموسيقى والغناء الحديث باستخدام الآلات الموسيقية الغربية. وفي مجال الأدب ظهرت جماعة الغابة والصحراء “The Forest and the Desert” التي اعتبرت ثقافة وسط السودان مزيج من ثقافتين عربية وافريقية فرمزوا للأولى بالصحراء وللثانية بالغابة، وتبعتها جماعة أباداماك (الإله الأسد في حضارة مروي) في مجال المسرح، وكان من روادها يوسف عايدابي. وفي الرواية عبّر الطيب صالح عن ارتباط الانسان السوداني بأرضه وثقافاته.

ظهور المدارس التشكيلية (١٨٦٠ - ١٩٨٠)

في هذا السياق العام الذي اتسم بالحماس بسبب أنه أعقب فترة الاستقلال، جاءت محاولات الفنانين التشكيليين السودانيين للتعبير عن ذاتيتهم الوطنية بأدواتهم الفنية، وركز التشكيليون على مجال الرسم وظهرت عدة مدارس في النصف الثاني من القرن العشرين، منها: مدرسة الخرطوم، والمدرسة الكرستالية، والتيار الجمالي. ويُقصَد بالمدرسة الفنية الاتفاق على أسلوب فني يعبِّر عن فكرة فلسفية ورؤية اجتماعية موحدة يلتزم بها مجموعة فنانين. وفيما يلي تعريف مختصر بالمعالم العامة لكل مدرسة.

  • مدرسة الخرطوم (١٩٥٠ - ١٩٧٠)

حتى نهاية ستينات القرن العشرين استمر مجموعة من الاساتذة الانجليز يدرِّسون في كلية الفننون الجميلة والتطبيقية، ومنهم الناقد دنيس وليامز (Denis Williams) وهو مؤرخ وباحث من "غويانا" من أصل إفريقي. كان مهتما بموضوع هوية الفنانين الأفارقة واثبات وجود تراث فني عند الشعوب الإفريقية. لاحظ وليامز وجود ملامح معينة مشتركة بين أعمال بعض الأساتذة في كلية الفنون واهتم بوجه خاص باعمال إبراهيم الصلحي وأحمد محمد شبرين القائمة على الحروف العربية. فأطلق اسم "مدرسة الخرطوم" على مجموعة الفنانين الذين اظهرت اعمالهم عناية برسم وجوه البشر بطريقة أقرب إلى الأقنعة الإفريقية، واستخدام ألوان مشتقة من اللونين البني والصفر والدرجات التي بينهما أو استخدمت الحروف العربية لانتاج أعمال فنية. وفيما بعد ادخل ضمن هذه المدرسة عددا آخر من الفنانين من بينهم عثمان وقيع الله ومجذوب رباح وتاج السر أحمد وصالح الزاكي وغيرهم. وبعد هذا الجيل الأول من فناني مدرسة الخرطوم ظهر جيل ثان كانوا تلاميذاً للجيل الأول، واتبعوا نفس طريقة الرسم فادخلوا ورموز الحيوانات والبوابات وساد في لوحاتهم نمط رموز زخرفية صارت جزء من القاموس البصري التقليدي لمدرسة الخرطوم، وكان على رأس هذا الجيل الثاني احمد عبد العال وابراهيم العوام وعتيبي.

  • المدرسة الكرستالية (١٩٧٥ - ١٩٨٠)

This was the only Sudanese art school that published a manifesto—released in Al-Ayyam newspaper on January 21, 1976—and signed by artists Kamala Ibrahim Ishaq, Mohamed Hamid Shaddad, and Naeila Al-Tayeb (plus two non-art members). They argued that the world is like a crystal: transparent, with interdependent components. They rejected singular objective truth in favor of multiple truths intertwined with perception, feeling, and pleasure. This school was the first in Sudan to call for liberating the mind through art and interrogating reality by visually reconfiguring it.

  • التيار الجَمالي (١٩٧٥ - ١٩٨٠)

In the early 1970s, young artists criticized the Khartoum School for aligning with post-independence regimes’ ideologies. They formed an aesthetic movement led by Abdallah Ahmed Al-Bashir “Bola”, Hassan Muhammad Musa, Salah Hassan Abdullah, Al-Baqir Musa, Hashim Muhammad Salih, and Abdallah Bardus. Bola defined visual art as “the composition of visible forms in new relationships.” He argued that visual artisans collectively shape new structural relationships in their work, and that meaning resides in these holistic interactions rather than in individual symbols. This group criticized the symbolic use of color in the Khartoum School—like brown hues symbolizing Sudanese soil—and rejected attempts to mold indigenous visual culture into Western forms for exhibition.

الاتجاهات التشكيلية غير المدرسية (١٩٥٠ - ١٩٨٠)

في الغالب ركَّز دارسو تاريخ الفن التشكيلي الحديث في السودان على فناني المدارس وأهملوا العدد الأكبر من الفنانين الذين ظلوا ينتجون في نفس الفترة التي ظهرت فيها تلك المدارس دون أن ينتمي أحدهم إلى أي منها، رغم أنهم أثروا كثيراً على الأجيال التالية من الفنانين بقدر تأثير فناني تلك المدارس. وكان على رأس هؤلاء الفنانين غير المدرسيين: عبد الرازق عبد الغفار، وحسين شريف، وتاج السر أحمد، وحسن الهادي، وحسين جمعان، وعمر خيري، وغيرهم من الذين نشطوا في النصف الثاني من القرن العشرين.

نهاية مفهوم المدرسة (١٩٨٠ - ٢٠٠٠)

مع بداية الثمانينيات سادت الأساليب الفردية، وصار معظم الفنانين يطورون أساليباً فردية وتأثر بعضهم بفنانين غير مدرسيين، وتبنوا أساليب هجينة تجمع بين التجريد والأشكال الواقعية، وخاصة مزج العلامات الزخرفية بالرموز والوجوه والأجساد البشرية. من هؤلاء الفنانين راشد دياب وحسَّان علي أحمد وعصام عبد الحفيظ وسيف الدين اللعوتة وصلاح إبراهيم وعبد الرحمن شنقل وغيرهم، وفي هذه الفترة برز أيضاً اتجاه تجريبي في الرسم. وفي تسعينيات القرن العشرين نُشرِ بيان صاغه احمد عبد العال يدعو إلى ما سُمِّي "مدرسة الواحد". لم يترك البيان أثراً يُذكر لأنه مع ثمانينات القرن العشرين انتهى دور المدرسة، أي الالتزام بأسلوب فني يعبِّر عن فكرة فلسفية ورؤية اجتماعية موحدة لعدة فنانين، وظهر مفهوم الجماعة الفنية التي تقوم على العرض المشترك مع احتفاظ كل فنان بأسلوبه ومفهوم الخاص للفن. وكان منها: جماعة أمدرمان، وجماعة العمل التشكيلي، وجماعة واوات، والجمعية التشكيلية السودانية وجمعية التشكيليات السودانيّات، بجانب فروع اتحاد التشكيليين السودانيين بمدن السودان المختلفة.

الألفية الثالثة (٢٠٠٠ - ٢٠٢٠)

تضاعفت أعداد خريجي كلية الفنون في بداية الالفية الثالثة وظهر متخصِّصون في مجالات جديدة كانت قد أضيفت إلى كلية الفنون بجامعة السودان، مثل التصميم الداخلي وتصميم الأزياء، فتطورت النزعة التجريبية وبرزت فنون التصوير الفوتوغرافي، كما ظهر تأثير المشتغلين بالعمارة والفنون الرقمية، بجانب الفنون ثلاثية الأبعاد مثل النحت والخزف، كما في أعمال ليلى مختار. استقر عدد من الفنانين خارج السودان وحقّقوا نجاحاً ملحوظاً، مثل معتز الإمام وأبوشريعة والطيب ضَوْ البيت وإسلام زَين العابدين. وآخرين نشطوا داخل السودان، مثل الحسن المنتصر وحازم حسين وغيرهم ممّن يصعب حصرهم في هذا النص الذي يرسم تاريخياً تقريبياً ييسِّر دراسة الفترات التي وُصِفت هنا. أيضاً، ظهرت في هذا الفترة عدّة غاليريهات ومؤسّسات فنية أغنت حركة العرض وأعطت القيِّم (curator) دوراً في تنظيم المعارض والنقاشات المصاحِبة؛ منها غاليريهات دَبَنقا، وشمس، وزا مْيُوز، وداوُن تاوُن، وجَالُوص.

تصفح مقالات اخرى
حسّان الناصر

ابحث عن فنانين، أعمال فنية، أو كتب

  1. Under this agreement, I hereby grant permission to the Sudan Art Archive to utilize the information provided about me and my works for the purpose of documenting the history of Sudanese art. The Muse Multi Studios will retain this information and share it as part of its artistic archive online and in relevant publications.
  2. I acknowledge that The Muse Multi Studios and the Sudan Art Archive may include information about me and my artworks from online platforms as part of their digital archive. I hereby express my consent to The Muse Multi Studios to utilize publicly available information from the internet for this purpose.
  3. I affirm that I will not hold The Muse multi studios or the Sudan Art Archive accountable for any claims or disputes arising from the ownership or accuracy of the provided information.