اين نجد الارشيف السوداني؟

الكاتب:
حسّان الناصر

مقدمة

ساهم غياب التدوين في حجب العديد من السرديات التاريخية التي نشأت في السياق السوداني، حيث خلف هذا الغياب نوعاً من الضبابية في البصيرة تجاه التاريخ، وكذلك في اتجاه حيوات المجتمعات المختلفة في السودان، مما ساهم في تعزيز سرديات أو تصورات محددة، أصاب بعضها وأخطأ الآخر. وأدى ذلك إلى ارتباك مستمر في فهم السودان ك "نحن"ذات تفكر بشكل مستقل ومنتمي إلى سياقها.

بكل تأكيد يلقى على الدولة الحديثة مسؤولية الأرشيف إلا أننا أمام سياق نشأت فيه الدولة كشكل "مقحم" في المجتمع مما عزز تقنيات محددة وأساليب معينة في فرض التدوين والحفاظ على المعلومة وإعادة إنتاجها في التاريخ، أسهمت سياسات الحداثة في ابتعاد المؤسسات المعنية بالأرشيف، بسياق المجتمع وحصرها في المقولة "الرسمية" ينبع من هنا الفجوة ما بين المؤسسات المعنية بالأرشفة وبين المجتمع الذي يسبح في مستوى عالي من المشافهة والإحتفاظ بالذكريات والأحاجي في حدود المقولات الاجتماعية.

تاريخ السودان السياسي يتسم بقدر عالِ من النزاع، فنحن لا نزال في بلد يتشكل تاريخه من خلال استمرارية نزاعه؛ بمعنى أننا أمام لوحة تتكون عناصرها من دماء أبنائها، ويتجلى ذلك في أن اللحظات التي يُفترض أن تنتهي عندها حقب معينة، تبدأ فيها دائمًا لحظات النزاع والمنازعة. وهذا النزاع لا يقتصر على التاريخ نفسه، أو على من ارتكب "إثم اللحظة"، وإنما يمتد أيضًا إلى طريقة تدوينه، وفضاء الاحتفاظ به.

وربما كانت لحظة ١٥ أبريل ٢٠٢٣ هي أقسى لحظة على ذاكرة وأرشيف السودانيين، وعلى أرشيفاتهم الشخصية التي ابتدعوها بعيدًا عن المؤسسات الحديثة، حيث دمرت الحرب، والنزوح ، أرشيف العائلات التي كانت تحتفظ بذاكرة المدينة.

يحاول هذا المقال أن يتلمّس الأرشيف في السياق السوداني من حيث تشكّله ومؤسساته، وينطلق من فرضية أن الأرشيف السوداني يتشكل حول مقولة "النزاع والتنازع"، حيث يتم بناء السرديات من موقعية الانقسام والتشظي، وانعدام وجود فضاء مشترك للأرشيف يمثل وحدة يلتقي فيها الناس، سواء المجتمعات أو الدولة، وحتى العاملون على الأرشفة أنفسهم.

قد يبدو هذا الادعاء فجاً، إلا أنه نابع من واقع نعيشه في سياقنا الاجتماعي والمؤسسي، ومدى اتصال المؤسسات بالمجتمع وفاعليتها فيه. لذلك، جاءت هذه الادعاءات بهذه الطريقة، التي تجعل من الأرشيف مقولة "غريبة" عن السياق السوداني. ومع ذلك، نجد نوعًا من الأصالة في مؤسساتنا المعنية بالأرشفة؛ فرغم الإهمال الذي طالها، إلا أنها لا تزال تقاوم في سياق حرب تلتهم التاريخ.

أين نجد الأرشيف السوداني؟

يمكن أن نجد الأرشيف السوداني الرسمي في عدد من المؤسسات الحكومية التي ترعاه وتعبر عن تطور الذاكرة الرسمية للدولة. رغم تعاقب الحكومات، فقد حافظت هذه المؤسسات على وجودها، خصوصًا في عام ٢٠٢٣، الذي أعلنت فيه الدولة أنه سيكون "عام المتاحف".

تحتوي دار الوثائق القومية على نحو ٣ ملايين وثيقة تاريخية تخص تاريخ السودان السياسي والاجتماعي. وتعود هذه الوثائق إلى فترات بعيدة من التاريخ الإجتماعي للسودان، بما في ذلك وثائق عن بعض الممالك الإسلامية في القرون التي سبقت تشكيل الوحدة الحديثة.

تأسست دار الوثائق القومية السودانية عام ١٩١٦، عندما فكرت الإدارة البريطانية في إنشاء مكتب لجمع وتنظيم الوثائق المالية لتيسير إدارة بلد شاسع مترامي الأطراف. ثم توسعت دائرة الاهتمام في عشرينيات القرن الماضي لتشمل الأوراق والمكاتبات القضائية، وفي عام ١٩٤٨، أسست الإدارة البريطانية "مكتب محفوظات السودان"، وأسندت إدارته إلى لجنة سميت "لجنة محفوظات السودان"، وقد اهتمت هذه المؤسسة، إلى جانب الوثائق الرسمية، بجمع الوثائق الخاصة التي كانت بحوزة الأفراد والعائلات.

نجد أيضًا جانبًا من الأرشيف تم الإحتفاظ به على مستوى المتاحف، حيث عملت الحكومات السودانية على عدد منها، وإن كانت محدودة، إلا أنها اهتمت بمسألة الأرشيف، وحاولت من خلالها بناء سرديتها التاريخية.

ويبلغ عدد المتاحف السودانية القائمة قبل الحرب ٢٤ متحفًا ، إلى جانب ٨ متاحف مقترحة.كان هناك العديد من الأدبيات التاريخية التي تناولت هذه المسألة، نعرض فيما يلي أبرز هذه المتاحف التي تحتوي على ملامح مهمة من التاريخ الاجتماعي والسياسي في السودان:

  • متحف السودان القومي – الخرطوم:
    يُعد من أكبر المتاحف السودانية، ويقع على شارع النيل بالقرب من قاعة الصداقة، ويطل مدخله الرئيسي على النيل الأزرق وقبل التقاء النيلين مباشرة. بدأت أعمال تجهيزه منذ الستينات، وتم افتتاحه عام ١٩٧١. يحتوي المتحف على مقتنيات من جميع فترات الحضارة السودانية، من العصور الحجرية وحتى الفترة الإسلامية، مرورًا بالآثار النوبية والمسيحية.
  • متحف القصر الجمهوري – الخرطوم:
    واحد من أهم المتاحف في الخرطوم، يحتوي على مقتنيات تاريخية تعود إلى القصر الجمهوري؛ مقر الحكم في السودان؛ خلال الحقب المختلفة من تاريخ السودان الحديث. ويضم المتحف أيضًا مقتنيات أثرية وتراثية متعددة. وهو أول متحف يهتم بمقتنيات حكّام السودان من عام ١٨٨٤ حتى ٢٠٠٧، وتم افتتاحه رسميًا في ٣١ ديسمبر ١٩٩٩.
  • متحف بيت الخليفة – أم درمان:
    يقع بأمدرمان في منطقة غنية بآثار حقبة الدولة المهدية، وكان مقرًا لسكن الخليفة عبد الله التعايشي، خليفة قائد الثورة المهدية الإمام محمد أحمد المهدي. شُيد المبنى عام ١٨٨٧ على يد المعماري الإيطالي بيترو، وأُضيف إليه جزء من طابقين عام ١٨٩١. تحول المنزل إلى متحف عام ١٩٢٨، ويحتوي على مقتنيات نادرة من تلك الحقبة، إلى جانب مقتنيات تعود إلى ما قبل الدولة المهدية.

تمثل الأرشيفات السودانية بمختلف أنواعها ذاكرة جماعية حية تسجل تاريخ البلاد الغني وتراثها المتنوع، حيث تتنوع بين أكاديمية بحثية ورقمية حديثة وفنية بصرية ومتخصصة، وكل منها يلعب دورًا حيوياً في حفظ الماضي وتيسير فهم الحاضر. يأتي في مقدمة هذه الأرشيفات "أرشيف السودان - جامعة دورهام" الذي يعد من أهم المجموعات الوثائقية عن الفترة الاستعمارية البريطانية في السودان (١٨٩٨-١٩٥٦)، حيث يحتوي على وثائق إدارية حكومية وسجلات شخصية لموظفي الإدارة البريطانية وصور فوتوغرافية وتسجيلات تاريخية، مما يجعله مصدراً أوليًا لا غنى عنه للباحثين في التاريخ الاستعماري والعلاقات الأنجلو-سودانية.  

إلى جانب ذلك، تبرز "جمعية البحوث الأثرية السودانية" التي تركز على تقارير الحفريات الأثرية ودراسات عن المواقع التاريخية ووثائق عن التراث المعماري، مما يجعلها مرجعًا أساسيًا لعلماء الآثار والمهتمين بالحضارات القديمة في السودان خاصة مملكتي كوش ومروي.  

في سياق الأرشيفات الرقمية الحديثة، يظهر مشروع "ذاكرة السودان" كأحد المشاريع الرائدة في رقمنة التراث السوداني، حيث يقدم آلاف الوثائق الرقمية المصنفة ومواد سمعية بصرية منسية وواجهة بحث سهلة الاستخدام، مما يجعل التراث السوداني متاحًا عالميًا بدون قيود جغرافية. كما يتميز "الأرشيف المفتوح للسودان" بسياسة الوصول المفتوح ومجموعة متنامية من المواد التاريخية وأدوات بحث متقدمة، مما يدعم حركة المعرفة الحرة ويمكن المؤرخين الهواة من المساهمة في كتابة التاريخ الاجتماعي. ولا يمكن إغفال "أرشيف شرائط السودان" المتخصص في التسجيلات الصوتية النادرة مثل مقابلات مع شخصيات تاريخية وتسجيلات إذاعية قديمة وأغاني تراثية نادرة، حيث يحفظ الذاكرة الشفاهية المهددة بالانقراض ويفيد الإعلاميين والفنانين الباحثين عن مواد أصلية.  

تحتل الأرشيفات الفنية والبصرية مكانة خاصة في حفظ التراث السوداني، حيث يقدم مشروع "إرث" التصوير الفوتوغرافي صوراً عائلية تعكس الحياة اليومية وتوثيقًا بصريًا للتغيرات الاجتماعية وألبومات شخصية تاريخية، مما يوفر منظوراً للتاريخ الاجتماعي بعيدًا عن السرديات الرسمية. كما يركز "أرشيف السودان للفن التشكيلي" على أعمال فنية تشكيلية وسير الفنانين السودانيين وحركات الفن الحديث في السودان، مما يعزز الدراسات النقدية للفن ويسوق للإبداع السوداني عالميًا. 

تأتي الأرشيفات المتخصصة لتكمل هذه الصورة الأرشيفية الشاملة، حيث يقدم "مسح الأسلحة الصغيرة - أرشيف السودان" تحليلات للنزاعات المسلحة وبيانات عن تدفقات الأسلحة ودراسات حالة عن مناطق النزاع، مما يجعله مرجعاً أساسيًا لصناع السياسات والعاملين في بناء السلام. كما يهتم "مشروع التصوير التاريخي بجامعة الخرطوم" بحفظ الذاكرة البصرية الوطنية وتوثيق المعالم التاريخية وحماية المواد الأرشيفية من التلف، مما يحفظ مصادر أولية هامة للأجيال القادمة ويدعم مشاريع الترميم المعماري.  

تشكل هذه الأرشيفات معًا نسيجًا معرفيًا يحفظ الهوية السودانية في تنوعها وغناها، حيث تختلف طرق الاستفادة منها حسب احتياجات المستخدم. يمكن للباحثون الأكاديميون الاعتماد على الأرشيفات الأكاديمية والمتخصصة كمصادر أولية، بينما تقدم الأرشيفات البصرية والرقمية مواد غنية للإعلاميين للقصص الإخبارية. كما يمكن للمعلمين استخدام هذه الموارد لإثراء المناهج الدراسية، بينما توفر لعموم الجمهور وسيلة للتواصل مع التراث والهوية. مع التطور التقني، تتجه الأرشيفات نحو مزيد من الرقمنة والتشاركية، مما يوسع إمكانية الوصول ويحول هذه المجموعات من مخازن جامدة إلى منصات تفاعلية حية، وهو ما يتطلب دعمًا مؤسسيًا ومجتمعيًا مستمرًا لضمان بقائها مصدر إلهام للأجيال القادمة.

تصفح مقالات اخرى
حسّان الناصر

ابحث عن فنانين، أعمال فنية، أو كتب

  1. Under this agreement, I hereby grant permission to the Sudan Art Archive to utilize the information provided about me and my works for the purpose of documenting the history of Sudanese art. The Muse Multi Studios will retain this information and share it as part of its artistic archive online and in relevant publications.
  2. I acknowledge that The Muse Multi Studios and the Sudan Art Archive may include information about me and my artworks from online platforms as part of their digital archive. I hereby express my consent to The Muse Multi Studios to utilize publicly available information from the internet for this purpose.
  3. I affirm that I will not hold The Muse multi studios or the Sudan Art Archive accountable for any claims or disputes arising from the ownership or accuracy of the provided information.